عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شاباً، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: «أفلا كنتم آذنتموني؟»، قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: «دلّوني على قبرها»، فدلّوه فصلى عليها ثم قال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم» رواه مسلم.
وفي رواية للإمام أحمد: قال: «فهلا آذنتموني به؟»، فقالوا: إنه كان ليلاً.
[] معاني المفردات:
= تقم: تنظّف
= آذنتموني: أخبرتموني
[] تفاصيل الموقف:
العَلَم من الناس يعرفه الجميع، يتابعون أخباره، ويحفظون كلماته، ويستشهدون بمواقفه، في حين أن ذلك المشهور لا يعرف إلا القلّة القليلة ممّن يحيطون به، ويتعاملون معه مباشرة، فكيف الأمر إذا تعلّق بأعظم الرّجال وأشرف الأنام، وقائد الدولة ورسول الثقلين، بكلّ ما تحمله هذه الأوصاف من مسؤوليّات وتبعات، وتكاليف ومشاقّ، ثم هو يتابع شأن أدنى الناس منزلةً وأقلّهم حظّاً، ويسألُ عنه، ويلحظ غيابه، ويعاتبُ لأجله أصحابَه؟ ألا يزيده ذلك رفعةً وعلوّاً؟ وعظمةً وبهاء؟ ويجعله متربّعاً على عرش الكمال الذي لم يبلغه أحد؟
بلى، فذاك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلّم الإنسانيّة وقدوتها، يضرب لنا المثل الحي من خلال مواقفه وتصرّفاته، وأقواله وأفعاله، كيف تكون الرحمة المهداة للعالمين.
فلننظر إليه وهو في المدينة، يسوس الناس، ويسيّر الجيوش، ويربّي الأفراد، ويعقد المجالس، ويلتقي بالوفود، ويدعو القبائل، ثم هو يلحظ أثناء ذلك امرأة من عامّة الناس، تلتقط الأذى من المسجد النبوي ثم ترميه بالخارج، وتتعاهد المكان، وتزيل الأقذار، حتى يبقى بيت الله نظيفاً.
ثم تغيب المرأة عن ناظري النبي صلى الله عليه وسلم قدراً يسيراً من الزمن فيفتقدها، ويتوجّه بالسؤال إلى من حوله، عسى أن يقف منهم على خبر، فإذا بهم يعلمونه بموتها، بعبارة مقتضبة لا تفصيل فيها، ولِمَ يفعلون؟! وهي لم تكن -في نظرهم- سوى امرأة لا يُؤبه لحالها، ومجرّد رقم بين آلاف الأرقام التي تموج بها المدينة.
لكن تلك اللامبالاة وعدم الإهتمام الذي أبداه الصحابة، إستحال إلى دهشةٍ عارمة عندما سمعوا كلمات العتاب من النبي صلى الله عليه وسلم: «أفلا كنتم آذنتموني؟» وحارت عقولهم تبحث عن جواب يبيّن سرّ اهتمامه عليه الصلاة والسلام بامرأة لم يكن لها شأنٌ يُذكر، وأمام ذلك العتاب إعتذروا بأن موتها كان ليلاً، وما كان لهم أن يزعجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الوقت.
ولم تقف القضيّة عند حدود السؤال، بل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ذهاب إلى قبر تلك المرأة، وصلّى عليها مع ثلّة من أصحابه، مع إستغفاره لها ودعائه بالتثبيت، لتحظى في قبرها بالنور الذي يزيل عنها ظلمة القبر، ووحشة المكان.
[] إضاءات حول الموقف:
دررٌ كثيرة إحتواها هذا الموقف النبوي الكريم، يأتي في مقدّمها: القيمة الإعتبارية التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة والبسطاء، ليكون الدرس الذي نتعلّمه، أن كلّ إنسان له دورٌ وقيمة، وتلك قضيّة ينبغي الوقوف عندها، إذ لا قيام للمجتمعات ولا نهوض للأمم إلا بعمل الجميع وإنتاجهم، ولولا أصحاب الأدوار الهامشيّة في الحياة لما إستقامت المعيشة أو صلُحت الأرض للسكنى، ولنا العبرة في الآلات الكبيرة، والتي تعمل من خلال المئات من التروس مختلفة الأحجام، ولو تعطّل واحد منها لتوقّفت الآلة كلّها عن العمل، ما يعني أن على المؤمن ألاّ يحقر من الأعمال الصالحة شيئاً ولو كان في نظر الناس صغيراً، والصغير عند الله كبير.
وفي الحديث إشارة إلى فضل تنظيف المسجد وتعاهده، وقد تضافرت الأدلّة التي تحثّ على ذلك، منها حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نُخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى إحمر وجهه، فجاءته امرأة من الأنصار فحكّتها وجعلت مكانها خَلوقاً نوع من أنواع الطيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحسن هذا» رواه النسائي، وطبّق ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه فأزال نُخامةً رآها في المسجد كما جاء في الصحيحين وغيرهما.
ومما يدلّ عليه الحديث، أن الدعاء لصاحب المعروف مكافأة له، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة بعد موتها.
كما إستدلّ العلماء على الترغيب في شهود الجنائز، وعلى إستحباب الصلاة على الميت الحاضر عند قبره لمن لم يصلِ عليه، وعلى مشروعيّة الدفن ليلاً، والإخبار بالموت.
المصدر: موقع إسلام ويب.